الجمعة، 31 يناير 2014

المجنون

"_إني أعاني, حياتي موت و جسدي جثة تنتظر قبرا و روحا تحلم بالإنتحار.. حياتنا عدم في عدم, دكتورة هل أحتاج للمساعدة فعلا؟؟, فكري إنحراف عن السائد هذا حقيقة لكن هذا لا يعني أن السائد سليم معاف من الوهم.. الأمل وهم و السعادة وهم من دونها الحياة عدم من عدم, وحده الألم حقيقة محققة, محدقة بنفونسنا و أرواحنا و أحلامنا.. دكتورة الحل هو الإنتحار و وضع حد للعبث و القضاء على العدم المعدوم.." 

تنظر له طبيبته بحنو طفل على عصفور يطرق نافذته و قد أنهكه البرد و الخوف يستجدي لحظة عطفها و مساعدتها.. تحاول مساعدته على تخطي يأسه و خنوعه و هروبه من مواجهة جراحه.. تحاول مساعته لتسوية إحرافه على سير هذا المجتمع, أوليس هذا ما تعلمته و ما درسته أن تصحح كل إحراف على الواقع السائد و تعيد كل فكرة تخرج عن السرب في طيرانها.. هذا ما صيرها لها المجتمع و إختياراتها الدراسية و هذا ما ستفعله مع هذا المجنون ذا الطابع الإنتحاري.. 

تتواصل الجلسات العلاجية بين الطبيبة و مريضها
و قد كانت تخصص له وقتا طويلا مقارنة بزملائه في العنبر, لقد كان هذا المريض خاصا في تصوراته و تفكيره و ربما من زاوية ما نستطيع أن نجزم أنه أشد عقلا منا لذلك هو مجنون.. لقد حاول الإنتحار مرات عديدة لكن القدر يظل يحرمه الشيء الوحيد الذي تمناه بشدة و أراده بشدة و هو لحظة الحقيقة الوحيدة التي طمح إليها و أرادها و طلبها بكل ما أوتي من عقل.. كل هؤلاء الأطباء و الأهل و الأصحاب الذين أرادوا مساعدته و تسقيم إعوجاج فكره لكنه أصر على الجنون بكل عقل..
حتى تلك الطبيبة الزائر الجديد في حياته, الطبيبة ذات العقل الراجع و القلب الحنون, تلك الملاك الذي نزلت له من سماء حلم ما لتأخذ بيده نحو لذة حقيقية كحقيقة الموت لكنها غارقة في وهم السعادة.. تعجز أمام حالته و تشفق عليه من أفكاره و تكاد تجزم ان لا مصير له غير النجاح في الإنتحار في محاولة ما على غفلة من جميع من يهتم لأمره.. تعجز دائما أما قوة حباكة أفكاره وشوقه الشديد لمعانقة الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود و هي الموت.. 

تذهب الطبيبة اليوم لمناوبة ليلية و قد إعتادت على البقاء يقظة طول الليل في مثل هذه المناوبات, تقرأ بعض الكتب تارة و تراجع بعض الملفات تارة أخرى و بين هذا و ذاك تأخذ وقتا مستقطعا لشرب قهوة تساعدها على البقاء مستيقظة.. ملئت كوب قهوتها و أخذت تترشفه أمام النافذة ناظرةً إلى حديقة المشفى تراقب الأشجار و النبات و هي تتمايل على نسمات الليل و نغمات سكونه, تراودها رغبة في سيجارة تحرق بيها هموم العمل و العائلة مع جولة بين النبات و الخضار و الإستمتاع بنسمات الفجر تلفح وجها.. تأخذ علبة السجائر و كوب القهوة في جولة قصيرة في الحديقة.. لقد إعتادوا في المشفى على  ترك نور الأروقة مضاءا مما يجعل نافذات العنابر تبعث نورا خافت  لا ترى من خلاله سوى أخيلة المارين من ورائه.. أخذت تتأمل تلك النوافذ سارحة بخيالها بين كل تلك الحالات التي تحت عهدتها تفكر في كل هؤلاء العائلات اللوات يضعن فيها كل ما لديهم من أمل لتعيد إليهم المريض (منحرف الفكرة) سليما إلى أحضانهم و كلما زاد ضغط الأفكار زاد ضغطها على السجارة دون وعي منها و بينما هي سارحة بخيالها بين الواقع و الخيال و إذا بها تلاحظ خيالا يعلق شيئا ما في السقف, إنه عنبر مريضها المميز.. أصبها الهلع الشديد و قامة برمي السجارة و كوب القهوة و ذهبت مسرعة تحاول إنقاذ حياته و حين وصلت لباب العنبر وجدته يلهو بحبل فتله من غطاء فراشه فاجئه وجودها في مثل ذلك الوقت المتأخر و تفاجأ أكثر بنظرة الهلع من عينيها و عرف أنها ظنت ما ظنته من الحبل الذي يلهو به 

- لا تخافي لن أفعلها الآن و الآن بالذات لن أفعلها, لدي مهمة عليا إنجازها أولا 
-مهمة ؟! لم تطلعني قبل اليوم أن لك مهام حياتية؟؟ كنت أعتقد أنك ترى الحياة وهم بكل ما تحمله من تفاصيل..
-هناك حقيقة تجتاحني منذ مدة تعيشني دون رغبة مني أن أعيشها, بل وهم ينزل على قلبي بعمق الحقيقة يصيرني عبدا له أكثر من الموت..
-ماهو ؟؟
يصمت المجنون قليلا و ينظر في عينيها كمن يريد أن يعانق شيء داخلهما أو يريد أن يخنق تلك الشفقة داخلهما و يحولها لشيء أجمل و حقيقة أعمق ثم يردف:
- إني أشفق عليك يا دكتورة..
-تشفق علي!! مما؟؟
-من كل هذه الحياة التي تبتلعك, من عملك في تصحيح الإنحرافات لإنحرافات أكبر, الإنتحار إنحراف و الحياة إنحراف أكبر, يا دكتورة من يحدد من المجنون فينا؟؟ إنه عاقل من قطيعكم حكم عليا بالجنون فقط لأني خرجت عن القطيع و حاد تفكيري نحو إتجاه آخر غير الذي يتجهون.. أتدرين يا دكتورة أني بعد أمي لم أشفق إلا عليك, إني أشفق عليك كما أشفقت عليها من الحياة من كل هذا الوهم, من قدرنا ككائنات مخيرة بين الوهم أو حقيقة الألم, أنا يا دكتورة أشفق عليك من كلاهما, لأنك لا تستحقين هذا الخداع, قلبك يحمل من البراءة ما لا يستحق أن تكوني مخدوعة و تضلي مع القطيع..
ترد عليه الطبيبة جازمة بأنها لا تحدث مريضا بل مفكر أو ربما فيلسوفا:
-لماذا ترانا نحن المخدوعين و أنت الذي تمتلك الحقيقة وحدك ألا ترى في هذا إحتكار للحقيقة و غرور؟؟؟ 
يرد عليها مع إبتسامة خبيثة: 
-بل ثقة سيدتي..
و يندفع نحوها مسرعا و يمسك بيدها  يضعها على صدره و يقول: 
- تلمسي ذلك الألم التي يلتهب بين أضلعي, إنه حقيقة تحرقني, تألمني, تدفعني نحو حتمية الموت حتى لو صبرت و حتى لو حلمت و مهما أثثت حياتي بالأوهام و حتى إن إخترت منها تلك الأكثر واقية كالحب سيأتي الموت مدمرا لكل تلك الأوهام بحقيقته المرعبة اننا نأتي من العدم لنعيش العدم نحو العدم..
تنظر إليه الدكتورة هذه المرة و قد إختفت كل تلك الشفقة التي فيهما و قد حلت مكانهما لمعة خوف, خوف من كل ذلك المنطق الذي يواجهها بها مريضها الذي يعد من أكثر الحالات المستعصية في المشفى..مرتعبة من كل تلك المشاعر التي تشب داخلها, من نظرتها في باطن مريضها التي تجعلها تقف وجها لوجه مع ذلك الإحساس الذي ولد في غفلة منها ناحيته لدرجة أنها تستطيع أن تعرفه, إنه الحب, إنها تحبه, إنها تقع أسيرة لمنطقه عوض أن تروضه و يعوج فكرها شيئا فشيئا عوض أن تعدل إعوجاج تفكيره... 
و كل ذلك في غفلة منها و دون وعي بخطورة ما يحصل لها.. 
يقطع عليها مريضها صمتها و فوضى الأفكار التي تجتاحها قائلا:
- أتدرين يا دكتورة لقد إعتقدت دائما أن الموت متاع متوفر لي متى أردته و متى طلبته لكن اليوم لا أقدر عليه و لا أقدر أن أطلبه و هو خلاصي.. خائف من تركك لهذا الواقع ليفترسك و تركك لهذا الفراغ ليمتلئ بك و يفرغ من نفسه فيك.. أنا أشفق عليك يا دكتورة و أخاف عليك و أحس برباط سرمدي يجمع روحي بروحك و كل هذا حقيقة.. حقيقة أقوى من وجودي و وجودك المتفرقين.. ألا تحسين بهذا يا دكتورة كما أفعل...
تظل الطبيبة شاردة ساكتة تفكر و تحاول ترتيب أفكارها محاربة رياح الفوضى التي تبعثرها.. و أمام هذا الصمت يعود المجنون للحديث مكسرا كل تلك الأبعاد التي تقام بينهما بمجرد صمتها..
- حتى لو لا تحسين فأنا لا ألومك على ذلك, لا ألومك على إنفصالك مع الحقيقة التي نعيشها أو تعيشنا لا أدري لكن هذا لا ينفي وجودها معنا و حولنا و فينا.. يا دكتورة هل تعرفين مجنون ليلى؟؟؟ 
تمهمه الطبيبة قليلا لا تدري مغزى السؤال فتحير في الرد الملائم:
-نعم أعرفه, قرأت عنه مرة..
- قيس فقد عقله بالحب و أنا إستعدت بعضا من عقلي بالحب..
-حب!! حب من و ماذا؟؟
- آآآآآآآآآآه أنت لا تحسين!!! لا تستشعرين بذلك الرباط الذي يجمع روحينا و يصهرهما في إيناء واحد! إنه حبك يا دكتورة ما غير خرائط فكري و رسم فيها حقيقة جديدة شبيهة بالموت يسمونه حب و أسميه إنصهار روحين ما إفترقا إلا ليجتمعا في حتمية شبيهة بالموت.. تألمني يا دكتورة أنني كنت ربما سأموت أو أنتحر دون أن تعترض روحك روحي و يعود كل منهما لوطنه و يستقر في موطنه.. أتعرفين ماذا أتمنى يا دكتورة؟؟-ماذا؟؟
- أتمنى أن تسمحي لي بإحتضانك و إعتبريها أمنية المريض المحتضر الأخيرة من هذه الحياة لأنها بنفس الأهمية.. هل تسمحين لي ؟؟
كان يقول كلمته الأخيرة و هو يهم بإحتضانها مع إستسلام واضح منها يفيد الموافقة و أخذ برأسها على صدره مع إحاطتها بكلتا يديه ثم رفعت رأسها لتتأمل عينيه و تراقب تقلابتها فأخذ هو في تقريب شفتيه من شفتيها و تقبيليهما و هو يحاول أن يمدها على فراشه في العنبر و نجح في مدها تحته و إتخاذ وضعية المسيطر و إرتوى من شفتيها في قبلة ضرورية لإتمام مشروع إنصهار روحيهما و بعد إتمام القبلة و قد تأكد من خلالها من حقيقة ذلك الإحساس.. فجأة و في حركة سريعة كتم أنفاسها المتلهفة بالمخدة لقد قاومته قاومة الإختناق بشراسة لم تمنعه أن يتوقف عما هو ناوي عليه, و حين همدت أنفاسها أخذ ذلك الحبل الذي فتله طوال الليل و أحكم تعليقه و قبلها قبلة من جبينها ثم أقدم على الإنتحار.. 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More