الحياة عبئ ثقيل و أحيانا نحملها عبئا على عبئ فنرفض أن يتقاسم معنا أحبابنا شيء من بئسها, كبرياء كبير أم حنان عظيم و رأفة على قلوب من نحب و نهتم...
ليل محموم و وجع مكتوم و إرهاق يدمي روحها كما جسدها لكنها تظل دائما ترسم إبتسامة الرضاء و الراحة لتريح القلوب التي حولها, تنام كل ليلة قيد الوجع على فراش الحمى و الألم و تخرج تآوهاتها مستنجدة بعدالة الله و رأفته في جملة تذيب كل الإيمان في القلوب الخاشعة : " ساعدني يا الله إذا كنت تسمعني و أين أنت من وجعي" لكن الله يواصل ممارسة هوايته المفضلة و موهبته في الإختفاء وراء فضفضة الأسماء و الصفات و قدرية الوجع و القضاء المحتوم..
لكنها تظل تدعوه متأملة في تلك القوة الجبارة الوحيدة القادرة على محو تعبها و تصبير وجعها و دفع الآآه عن حنجرتها.. لا تقدر لاعدالة الأرض على قتل شعلة الأمل في روحها فيأتي المرض ليطيح بجسدها و يرهق روحها المشعة بالفرح و المليئة بالأحلام.. تظل تعاني الوجع في صمت و تتحمل الألم بصبر, أشهر تمر على هذه الحالة و هي تحاول أن تغرق مرضها باللامبالات و كلما إجتاحتها الأوهام و الهواجس و الوسوسات زادت في مشاغلها و مشاريعها و إهتمامتها بكل ما هو خارج هذا الجسد المريض الذي يعيق رغبتها الكبيرة في التقدم و حلمها في إرساء واقع غير الواقع..
يزداد المرض و لا ينقص و يزداد الوجع و لا يرحل, يجب أن تزور طبيب ما يشخص مرضها و ربما يدوي وجعها, ربما يداويها ربما, إنها لا تثق بهم, منذ أن سلبوها الأطباء أعز ما ملكت و أغلى الأحباب على قلبها.. لكن اليوم لا حل أمامها سوى الذهاب إلى واحد منهم بعد أن عجزت دعواتها على مساعدتها و التخفيف من ألمها.. إنه قرار صعب بنسبة لإنسانة مثلها عانت ما عانت و رأت ما رأت من وحشية و لاإنسانية الأطباء و فشلهم في تشخيص الأمراض و فناء الأرواح التي وثقت بهم..
***
هاهي في قاعة الإنتظار تنتظر في مرارة واضحة و خوف دفين, ترتجف أحيانا ربما هي غرفة الإنتظار باردة قليلا ربما قلبها من يقف وحيدا في تيار شك و تجاذبات وسوسات نتاج أشهرمن الألم.. حين نكون في موقف ضعف كالذي هي فيه الآن لا نفكر بشيء سوى في من نحب و نتمنى أن يكون بجانبنا ليخفف مرارة اللحظة و يعطينا جرعة قوة نقدر أن نتقدم بيها ففكرت أن تتصل بحبيب قلبها ليعطيها تلك الجرعة و يحقق لها ذلك الإكتفاء من الحنان لكنها تتذكر كل خيباتها منه و كل ذلك الجفاف في كلماته و كل الأنانية في تصرفاته فتعدل عن ما فكرت و تلجأ إلى تلك القوة المخفية داخلها و تحدث نفسها حديثا طويلا عن الحياة و القوة و الأمل و الإستمرار و التحمل و البطولات التي صنعت, ما أجملها حين تحدث مع ذاتها في علاقة حب راسخة و علاقة صداقة قديمة وثيقة قوامها الصدق و الوفاء من سيهديها كل ذلك غير نفس صادقة لا تجدها سوى في نفسها..
بعد حديث طويل مع نفسها و صراع كبير مع وسوساتها يأتي دورها في الدخول, تتخذ مكانها في كرسي أمام الطبيبة في إيزان واضح و إرتجاف داخلي, إنها طبيبة في الاربيعنات من عمرها مظهرها قريب من مظهر أمها و جارتهم إنها كائن عادي كالذين تمشي بجانبهم ز تعمل معهم و تحدثهم و تسامرهم كل يوم هكذا تحدث نفسها لتخفف من ذعرها و تطمئن قلبها..
تبدأ الطبيبة بسؤالها المعتاد و العادي مع إبتسامة عريضة لا تدري مصدرها ربما تجارة كتجارة الطب التي تمارسها لا تدري:
- ما مشكلتي ؟؟
تجيب الفتاة في إرتباك واضع :
-أأ أأ أعاني من تأخر في الدورة الشهرية و آلام مبرحة في الحوض..
-هل أنت متزوجة؟؟ ربما تكونين حاملا
- لا لست متزوجة..
- حسنا لتصعدي على طاولة الفحص..
هنا ينتاب الفتاة نوبة من الذعر فتصبح كطفلة صغيرة تحاول أن تفرض إيرادتها بالدموع و الكثير من الدلع..
- أهذا ضروري سيدتي ؟؟ لا أريد ذلك, أيمكن أن تعطيني دواءا و أرحل بسلام
و تفر دمعة مكتومة من عينها تأكد ذعرها و تفضح ضعفها..
ترد الدكتورة و هي تبتسم و تحاول أن تحول الموقف إلى المزاح و المرح:
- لا تتصرفي كالأطفال أيتها الصغيرة, لن تأكلكي طاولة الفحص..
-أعرف ذلك.. حسنا ..حسنا
تتخذ الفتاة وضعيتها على طاولة الفحص و تقوم الطبيعة بتمرير جهاز الرنين المغناطيسي في صمت سائد..
إلي أن تكسره الفتاة بقلقها:
-هل من شيء يا دكتورة ؟؟
-هناك شيء ما في الرحم هل ترينه ؟؟ إنه هنا إلى اليسار قليلا
- نعم أنا أراه, ماذا يكون؟؟؟
-ورم من نوع ما, يجب أن نقوم ببعض التحاليل و الفحوصات الأخرى..
-ورم؟؟ هل سأكون بخير
- بخير بخير لا تخافي سأحدد الدواء بعد التحاليل و الفحوصات
تنزل الفتاة من فوق طاولة الفحص في خطا ثقيلة, مترامية الأقدام نحو المستقبل المجهول تريد أن تكتشف ما يخفيه لها القدر قبل أن يكتشفها هو.. في طريقها لفتح الباب و الإسراع للفحوصات تصارحها الطبيبة بإمكانية أن تكون حاملة للمرض الخبيث..
فتبتسم إبتسامة إنتصار و دون أن تشيح بنظرها عن الباب تقول :
-خَيْرْ ..خَيْرْ يا دكتورة..
و تخرج من غرفة الفحص مع أوراق لتحاليل و فحوصات لازمة لتشخيص الداء و العلاج.. و فور تواجدها لوحدها تحدث نفسها بصوت عال كالمجانين:
"مرض خبيث... ههههه... و أخيرا يأتي الخلاص.. و "الموت والسلام " لا "الإستسلام والإنتحار" آآآهه كم إكتفيت من الحياة و آلامها و كم تعبت من المقاومة, هل لي من الحظ لاختصر بقية عمري بهذا الإنتصار؟؟؟"
فتجتاحها اطياف احلامها, كل الروايات و الشخصيات التي سارت في عقلها و يجب أن تجد الوقت لتكتبها, كل الأحلام التي حلمت و يجب أن تحقق و كل السخرية التي تكتمها للألم و يجب أن تخرجها.. ليس هذا وقت الموت و وقت إنتصار كهذا...
يتبع...